فصل: تفسير الآيات (18- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (18- 21):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)}
{ويعبد ون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} يعني: ويعبد هؤلاء المشركون الأصنام التي لا تضرهم إن عصوها وتركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبد وها لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإن العبادة أعظم أنواع التعظيم فلا تليق إلا بمن يضر وينفع ويحيي ويميت وهذه الأصنام جماد وحجارة لا تضر ولا تنفع {ويقولون هؤلاء} يعني الأصنام التي يعبد ونها {شفعاؤنا عند الله} قال أهل المعاني: توهموا أن عبادتها أشد من تعظيم الله من عبادتهم إياه وقالوا لسنا بأهل أن نعبد الله ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام فإنها تكون شافعة لنا عند الله ومنه قوله سبحانه وتعالى إخبار عنهم {ما نعبد هم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وفي هذه الشفاعة قولان:
أحدهما: أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة قاله ابن جريج عن ابن عباس.
والثاني: أنها تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم قاله الحسن لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثاً بعد الموت {قل} أي قل لهم يا محمد {أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} يعني: أتخبرون الله أن له شريكاً ولا يعلم الله لنفسه شريكاً في السموات ولا في الأرض. وهذا على طريق الإلزام. المقصود: نفي علم الله بذلك الشفيع وأنه لا وجود له البتة لأنه لو كان موجوداً لعلمه الله وحيث لم يكن معلوماً لله وجب أن لا يكون موجوداً ومثل هذا مشهور في العرف فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء حصل في نفسه يقول: ما علم الله ذلك مني مقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع {سبحانه وتعالى عما يشركون} نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشركاء والأضداد والأنداد وتعالى أن يكون له شريك في السموات والأرض ولا يعلمه.
قوله سبحانه وتعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} يعني: فتفرقوا إلى مؤمن وكافر يعني كانوا جميعاً الدين الحق وهو دين الإسلام ويدل على ذلك أن آدم عليه السلام وذريته كانوا على دين الإسلام إلى أن قتل قابيل هابيل ثم اختلفوا. وقيل: بقوا على ذلك إلى زمن نوح عليه السلام ثم اختلفوا فبعث الله نوحاً. وقيل: إنهم كانواعلى دين الإسلام وقت خروج نوح ومن معه من السفينة ثم اختلفوا بعد ذلك وقيل كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي. فعلى هذا القول، يكون المراد من الناس في قوله: {وما كان الناس إلا أمة واحدة} العرب خاصة.
وقيل: كان الناس أمة واحدة في الكفر. وهذا لقول منقول عن جماعة من المفسرين ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة:
{فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} وتقديره: أنه لا مطمع في أن يصير الناس على دين واحد فإنهم كانوا أولاً على الكفر وإنما أسلم بعضهم ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كان الناس أمة واحدة. وليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج. وقيل: معناه أنهم كانوا في أول الخلق على الفطرة السليمة الصحيحة ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» والمراد بالفطرة في الحديث، فطرة الإسلام. قوله سبحانه وتعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك} يعني أنه سبحانه وتعالى جعل لكل أمة أجلاً وقضى بذلك في سابق الأزل، وقال الكلبي: هي إمهال هذه الأمة وأنه لا يهلكهم بالعذاب {لقضي بينهم} يعني بنزول العذاب وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلاً بينهم {فيما فيه يختلفون} وقال الحسن: ولولا كلمة سبقت من ربك يعني مضت في حكمة الله أنه لا يقضي عليهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضى بينهم في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بإيمانهم وأدخل الكافرين النار بكفرهم ولكن سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة وقيل سبق من الله أنه لا يؤاخذ أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه. وقيل: الكلمة التي سبقت من الله هي قوله: «إن رحمتي سبقت غضبي» ولولا رحمته، لعجل لهم العقوبة في الدنيا ولكن أخرهم برحمته إلى يوم القيامة ثم يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يعني في الدنيا {ويقولون} يعني كفار مكة {لولا أنزل عليه آية من ربه} يعني هلا نزل على محمد ما نقترحه عليه من الآيات {فقل} أي: فقل لهم يا محمد {إنما الغيب لله} يعني إن الذي سألتمونيه هو من الغيب وإنما الغيب لله لا يعلم أحد ذلك إلا هو والمعنى لا يعلم أحد متى نزول الآية إلا هو {فانتظروا} يعني نزولها {إني معكم من المنتظرين} وقيل معناه فانتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل إني معكم من المنتظرين قوله عز وجل: {وإذا أذقنا الناس رحمة} يعني رخاء ونعمة {من بعد ضراء مستهم} يعني من بعد شدة وبلاء وضيق في العيش أصابهم والمراد بالناس هنا: كفار مكة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين حتى هلكوا من الجوع والقحط، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك الضر فلم يتعظوا بذلك بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر وهو قوله سبحانه وتعالى: {إذا لهم مكر في آياتنا} قال مجاهد: أي تكذيب واستهزاء وقال مقاتل وابن حيان: لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.
ويدل على صحة هذا القول ما روي عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بين مؤمن بالكواكب» أخرجاه في الصحيحين. قوله: على أثر سماء كانت من الليل أي مطر كان قد وقع في الليل وسمي المطر سماء لأنه يقطر من السماء. والأنواء عند العرب: هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره وكانوا يعتقدون في الجاهلية أنه لابد عند ذلك من وجود مطر أو ريح كما يزعم المنجمون أيضاً فمن العرب من يجعل ذلك التأثير للطالع لأنه ناء أي ظهر وطلع ومنهم من ينسبه للغارب فنفى النبي عليه السلام صحة ذلك ونهى عنه وكفَّر معتقده إذا اعتقد أن النجم فاعل ذلك التأثير وأما من يجعله دليلاً، فهو جاهل بمعنى الدلالة. وأما من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وحرمه قوم ومنهم من تأول الكفر بكفر نعمة الله والله أعلم وسمى تكذيبهم بآيات الله مكراً لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بنوع من الحيلة وكان كفار مكة يحتالون في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من المفاسد: {قل الله أسرع مكراً} أي: قل لهم يا محمد الله أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء وإن عذابه في هلاكهم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ولما قابلوا نعمة الله بالمكر، قابل مكروهم بمكر أشد منه وهو أمهلهم إلى يوم القيامة {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} يعني الحفظة الكرام الكاتبين يكتبون ويحفظون عليهم الأعمال القبيحة السيئة إلى يوم القيامة حتى يفتضحوا بها ويجزون على مكرهم.

.تفسير الآيات (22- 23):

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} يعني: هو الله الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك. وقيل: معناه هو الله الهادي لكم في السير في البر والبحر طلباً للمعاش أو هو المهيء لكم أسباب السير في البر والبحر {حتى إذا كنتم في الفلك} يعني: السفن. ولفظة الفلك: تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بهما الواحد كان كبناء قفل، وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى: {وجرين بهم} يعني: وجرت السفن بركابها.
فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: قال صاحب الكشاف: المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب. وقيل: إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب {بريح طيبة} يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة {وفرحوا بها} يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة، لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له النفع التام والمسرة العظيمة بذلك {جاءتها ريح عاصف} قيل: إن الضمير في جاءتها يرجع إلى الريح فيكون المعنى: جاءت الريح الطيبة ريح عاصف فأقلبتها. وقيل: الضمير في جاءتها يرجع إلى الفلك. يعني: جاءت الفلك. ريح عاصم. يقال: ريح عاصف وعاصفة، ومعنى عصفت الريح: اشتدت. وأصل العصف: السرعة وإنما قال: عاصف، لأنه أراد به ذات عصوف أو لأجل أن لفظ الريح قد يذكر {وجاءهم الموج من كل مكان} يعني: وجاء ركبان السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من غوارب الماء في البحر وقيل: هو شدة حركة الماء واختلاطه {وظنوا أنهم أحيط بهم} يعني: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق. وقيل: المراد من الظن اليقين أي وأيقنوا أنه الهلاك. وقيل: بل المراد منه المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه {دعوا الله مخلصين له الدين} يعني أنهم أخلصوا في الدعاء لله عز وجل ولم يدعو أحداً سواه من آلهتهم وقيل في معنى هذا الإخلاص العلم الحقيقي لا إخلاص الإيمان لأنهم كانوا يعلمون حقيقة أنه لا ينجيهم من جميع الشدائد والبلايا إلا الله تعالى فكانوا إذا وقعوا في شدة وضر وبلاء أخلصوا لله الدعاء {لئن أنجيتنا} أي قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا {من هذه} يعني من هذه الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة {لنكونن من الشاكرين} يعني من الشاكرين لك على إنعامك علينا بخلاصنا مما نحن فيه من هذه الشدة {فلما أنجاهم} يعني: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدة التي كانوا فيها {إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} يعني أنهم أخلفوا الله ما وعدوه وبغوا في الأرض فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر الله به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها وأصل البغي مجاوزة الحد.
قال صاحب المفردات: البغي على ضربين، أحدهما محمود وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع.
والثاني مذموم وهو مجاوزة الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى قوله بغير الحق والبغي لا يكون بحق قلت بلى قد يكون بحق وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} يعني: إن وبال بغيكم راجع عليكم {متاع الحياة الدنيا} قيل هو كلام مبتدأ، والمعنى: أن بغي بعضكم على بعض هو متاع الحياة الدنيا لا يصلح لزاد الآخرة وقيل هو كلام متصل بما قبله والمعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيأ أن يبغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها في سرعة انقضائها. والبغي: من منكرات الذنوب العظام. قال بعضهم: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي.
وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعراً وكان المأمون يتمثل به فقال:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ** فارجع فخير مقال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوماً على جبل ** لاندك منه أعاليه وأسفله

وقوله سبحانه وتعالى: {ثم إلينا مرجعكم} يعني يوم القيامة {فننبئكم} أي فنخبركم {بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها.

.تفسير الآيات (24- 25):

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
قوله عز وجل: {إنما مثل الحياة الدنيا} يعني في فنائها وزوالها {كماء أنزلناه من السماء} يعني المطر {فاختلط به} أي بالمطر {نبات الأرض} قال ابن عباس: نبت بالماء من كل لون {مما يأكل الناس} يعني من الحبوب والثمار {والأنعام} يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور {وازينت} أي وتزينت {وظن أهلها} يعني أهل تلك الأرض {أنهم قادرون عليها} يعني على جذاذها وقطافها وحصادها، رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوماً. وقيل: رده إلى الثمرة والغلة وقيل: إلى الزينة {أتاها أمرنا} أي قضاؤنا بهلاكها {ليلاً أو نهاراً} يعني في الليل أو النهار {فجعلناها حصيداً} يعني محصودة مقطوعة {كأن لم تغن بالأمس} يعني: كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات الزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها. وذلك أنه تعالى لما قال: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفاً فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن الله سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو برداً أو ريحاً فجعلها حصيداً كأن لم تكن من قبل.
قال قتادة: إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون.
ووجه التمثيل، أن غاية هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها. وقيل: يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد والبعث بعد الموت وذلك، لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى أتته آفة فتلف بالكلية. ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرة فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادراً على إعادة الأموات أحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
{كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} يعني: كما بينا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفنا كم حكمها، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ليكون ذلك سبباً موجباً لزوال الشك والشبهة من القلوب.
قوله سبحانه وتعالى: {والله يدعو إلى دار السلام} لما ذكر الله زهرة الحياة الدنيا وأنها فانية زائلة لا محالة دعا إلى داره والله يدعو إلى دار السلام.
قال قتادة: الله هو السلام وداره الجنة فعلى هذا السلام اسم من أسماء الله عز وجل ومعناه أنه سبحانه وتعالى سلم من جميع النقائص والعيوب والفناء والتغيير. وقيل: إنه سبحانه وتعالى يوصف بالسلام لأن الخلق سلموا من ظلمه. وقيل: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى ذي السلام أي لا يقدر على تخليص العاجزين من المكاره والآفات إلا هو.
وقيل: دار السلام اسم للجنة وهو جمع سلامة. والمعنى: أن من دخلها فقد سلم من جميع الآفات، كالموت والمرض والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد. وقيل: سميت الجنة دار السلام لأن الله سبحانه وتعالى يسلم على أهلها أو تسلم الملائكة عليهم. قيل: إن من كمال رحمة الله وجوده وكرمه على عباده، أن دعاهم إلى جنته التي هي دار السلام.
وفيه دليل على أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم ولا يصف إلا عظيماً، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه: {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} يعني: والله يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم وهو دين الإسلام عم بالدعوة أولاً إظهاراً للحجة وخص بالدعوة ثانياً استغناء عن الخلق وإظهاراً للقدرة فحصلت المغايرة بين الدعوتين.
(خ) عن جابر قال: «جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: إن لصاحبكم مثلاً فاضربوا له مثلاً فقالوا مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة» ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها يفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان فقال بعضهم الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ومن عصى محمداً فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس وفي رواية: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً» وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كتفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.